فصل: (مسألة: جواز الإعطاء فوق الواجب)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: جواز الإعطاء فوق الواجب]

فإن وجب عليه تبيع، فأعطى مسنة.. جاز؛ لأنها أعلى مما وجب عليه، وإن وجب عليه مسنة، فأعطى تبيعين.. جاز؛ لأنهما يجزئان عن الستين، فلأن يجزيان عما دونها أولى.
ولا مدخل للجبران في صدقة البقر؛ لأن الزكاة لا يعدل فيها عن المنصوص عليه إلى غيره بالقياس.
والله أعلم.

.[باب صدقة الغنم السائمة]

والأصل في وجوب الصدقة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: 103]
والغنم مال.
ومن السنة: ما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الغنم صدقتها».
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من كانت له إبل أو بقر أو غنم، فلم يؤد زكاتها.. بطح بها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما نفذت أخراها.. عادت عليه أولاها». وهو بإجماع المسلمين، لا خلاف في وجوب الزكاة فيها.
إذا ثبت هذا: فما دون الأربعين من الغنم لا زكاة فيها، فإذا بلغت أربعين.. ففيها شاة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، فإذا بلغتها.. فيجب فيها شاتان، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائتين وواحدة، فإذا بلغتها.. ففيها ثلاث شياه، ثم لا شيء في زيادتها، حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغتها.. ففيها أربع شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاة.
هذا مذهبنا، وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حكي عن النخعي، والحسن بن صالح، فإنهما قالا: إذا زادت على ثلاثمائة واحدة.. وجب فيها أربع شياه إلى أربعمائة، فإذا زادت واحدة.. وجب فيها خمس شياه.
دليلنا: ما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في (كتاب الصدقة): «في الغنم إذا كانت سائمة، فبلغت أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت عليها واحدة.. ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة.. ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ذلك.. ففي كل مائة شاة».
والشاة الواجبة: هي الجذعة من الضأن، أو الثنية من المعز.
قال ابن الأعرابي: والجذعة من الضأن: إذا كانت من شابين.. مالها ستة أشهر إلى سبعة، وإن كانت من هرمين.. فما لها ثمانية أشهر إلى عشرة.
وحكي عن الأصمعي: أن الجذعة من الضأن: ما لها سبعة أشهر. وذكر الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": أن الجذعة: مالها سنة. وقيل: مالها ستة أشهر.
وأما الثنية: فما لها سنتان، وطعنت في الثالثة. هكذا ذكره ابن الصباغ، هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجزئ إلا الثنية منهما). وهذه رواية (الأصول) عنه.
وروى الحسن بن زياد عنه مثل مذهبنا.
وقال مالك: (تجزئ الجذعة منهما).
دليلنا: ما روى سويد بن غفلة: أن مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتانا، وقال: «أمرنا أن نأخذ الجذعة والثنية».
ولأن الجذعة تجزئ في الأضحية، فأجزأت في الزكاة، كالثنية.

.[مسألة: لا تؤخذ المريضة من الصحاح]

إذا كانت الماشية كلها صحاحا.. لم يؤخذ في فرضها مريضة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. وفي أخذ المريضة من الصحاح تيمم الخبيث.
وإن كانت الماشية كلها مراضا.. جاز أن يؤخذ منها مريضة.
وقال مالك: (لا يجوز، بل يكلف أن يشترى صحيحة).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إياك وكرائم أموالهم». وفي أخذ الصحيحة من المراض أخذ الكرائم.
وروى عبد الله بن معاوية الغاضري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث من فعلهن.. طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأن لا إله غيره، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولم يعط الهرمة ولا اللئيمة - يعني: الدون - ولكن يعطي وسطا، فإن الله لم يسألكم خيرها، ولم يأمركم بشرها».
فمن قال: يجب إخراج الصحيحة عن المراض.. فقد خالف الخبر.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل عن الشافعي: (ويأخذ خير المعيب)، ولا خلاف بين أصحابنا: أنه لا يجوز للساعي أن يأخذ خير معيب في المال.
واختلف أصحابنا في تأويله:
فقال ابن خيران: أراد بهذا: يأخذ خير المعيبين من الفرضين في ما بين من الإبل إذا كانت معيبة.
ومنهم من قال: يأخذ خير المعيبين، إذا خيره رب المال.
ومنهم من قال: أراد به: يأخذ الوسط، وقد يسمى الوسط خيرا، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، يعني: أوسطها وأعدلها.
ومن قال بهذا اختلفوا على وجهين:
فمنهم من قال: يأخذ أوسطها قيمة، وهو أن يقال: كم قيمة فرض أجود هذه المراض؟ فإذا قيل: عشرون.. فيقال: كم قيمة أوسطها؟ فيقال: خمسة عشر. فيقال: كم قيمة أقلها؟ فيقال: عشرة، فإنه يأخذ ما قيمته خمسة عشر، فأما الوسط في العيب: فلا يعتبر.
ومنهم من قال: يعتبر وسطا في العيب والقيمة جميعا.
والصحيح: قول ابن خيران، وقد نص الشافعي عليه في "الأم" [2/9].

.[مسألة: إذا كان النصاب صحيحا فلا تؤخذ المراض]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يأخذ مريضا، وفي الإبل عدد صحيح).
وقال في موضع آخر: (ولا يأخذ مريضا، وفي الإبل عدده صحيح).
قال أصحابنا: وكلاهما صحيح.
أما قوله: (وفي الإبل عدد صحيح)، يعني: لا يأخذ الفرض مريضا، وفي الإبل عدد صحيح، يعني: بعض المال صحيحا.
وأما قوله: (عدده صحيح)، يعني: لا يأخذ الفرض مريضا إذا كان في الإبل عدد الفرض صحيح.
إذا ثبت هذا - وكان بعض الماشية صحيحا، وبعضها مريضا -: لم يجب عليه إخراج الصحيحة من غير تقسيط، كما لو كانت كلها مراضا، ولا يجزئه إخراج المريضة؛ لأن في ذلك تيمم الخبيث، ولكن يخرج صحيحة بالقسط.
وكيفية ذلك: إذا كان معه أربعون من الغنم عشر منها مراض لا غير.. فإنه يقال له: كم قيمة فرض مريض منها؟ فإن قيل: عشرة دراهم.. قيل: وكم قيمة فرض صحيح منها؟ فإن قيل: عشرون درهما.. قيل له: خذ ربع قيمة الفرض المريض؛ ليكون المراض ربع النصاب، وثلاثة أرباع قيمة الفرض الصحيح؛ لكون الصحاح ثلاثة أرباع النصاب، وذلك سبعة عشر ونصف، ويشتري به فرضا صحيحا.
وإن كان نصفها مراضا.. فإنه يأخذ نصف قيمة شاة صحيحة، ونصف قيمة شاة مريضة، ويشتري بذلك شاة صحيحة.
وإن كان معه مائتان من الإبل، وفيها أربع حقاق صحاح، والباقي منها مراض.. فإنه لا يؤخذ منها إلا أربع حقاق صحاح بالقسط.
وكيفية ذلك: أن الأربع من المائتين جزء من خمسين جزءا، فيقوم حقة صحيحة فإن قيل: قيمتها خمسون درهما.. قيل: خذ منها جزءا من خمسين جزءا، وذلك درهم، ثم يقوم حقة مريضة منها، فإن قيل: قيمتها خمسة وعشرون درهما.. قيل: خذ منها تسعة وأربعين جزءا من خمسين جزءا، وذلك أربعة وعشرون درهما ونصف درهم، فيضاف ذلك إلى الدرهم، فيقال له: اشتر أربع حقاق صحاح، كل حقة بخمسة وعشرين درهما ونصف درهم.
فإن كان في المال ثلاث حقاق صحاح لا غير.. فإنه يؤخذ منها مريضة وثلاث حقاق بالقسط، على ما مضى.
وإن كان فيه حقتان صحيحتان لا غير.. أخذ منه حقتان مريضتان، وحقتان صحيحتان بالقسط، على ما مضى بيانه.
وإن كان فيه حقة صحيحة لا غير.. أخذ منه ثلاث حقاق مراض، وحقة صحيحة بالقسط، على الإجزاء في القيمة، على ما مضى.
وكذلك: إذا كان فيها صحاح من غير الحقاق.. فالكلام في التقسيط على ما مضى، وعلى هذا جميع الأنعام.

.[فرع: في الماشية الجياد والأسن]

وإن كانت الماشية أعلى من الفرض، كالثنايا وما فوقها من الإبل.. لم يطالب رب المال إلا بالفرض المنصوص عليه؛ لئلا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير.
وإن كانت الماشية صغارا، وحال عليها الحول، وهذا يتصور في موضع واحد، وهو أن يكون عنده نصاب من الماشية ثمانية أشهر، فتوالدت، ثم تماوتت الأمهات قبل الحول، وبقيت أولادها، فتم حول أمهاتها عليها، وأسنانها دون الفرض المنصوص عليه.. ينظر:
فإن كان ذلك في الغنم.. أخذ الساعي صغيرة منها.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يأخذ منه الساعي إلا كبيرة).
وحكى صاحب "الإبانة" [ق \ 115] أن ذلك قول للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، وليس بمشهور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم». فلو أخذنا الكبيرة من الغنم عن الصغار.. لأخذنا الكريمة عن مال لا كريم فيه، فلم يجزه.
وإن كان ذلك في الإبل والبقر.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق -: أنه لا يجزئ في زكاتها إلا الكبيرة بالقسط؛ لأنا لو أخذنا فصيلا عن خمس وعشرين من الإبل، وعن إحدى وستين فصيلا.. سوينا بين القليل والكثير.
فعلى هذا: يقال: لو كانت هذه الخمس والعشرون كبارا.. كم كانت قيمتها؟ فإن قيل: ألف.. قيل: فكم قيمة ابنة مخاض تجب فيها؟ فإن قيل: عشرة.. قيل فكم قيمة هذه الخمس والعشرين الصغار؟ فإن قيل: خمسمائة.. قيل له: اشتر ابنة مخاض بخمسة دراهم.
والوجه الثاني: أنا نفعل ذلك ما دام الفرض يتعين بالسن، كخمس وعشرين في الإبل، وست وثلاثين، وست وأربعين، وإحدى وستين؛ لئلا يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير. فإذا بلغت ستا وسبعين.. تغير الفرض فيها بالعدد، فيؤخذ منها صغيرتان؛ لأنه لا يؤدي إلى التسوية بين ما يؤخذ من القليل والكثير.
والوجه الثالث - حكاه ابن الصباغ -: أنه يؤخذ منها صغيرة بكل حال، كما قلنا في الغنم. والأول أصح؛ لأن على الوجه الثاني: يؤخذ من ست وسبعين فصيلان، ومن إحدى وتسعين فصيلان، وعلى الوجه الثالث: يؤخذ من خمس وعشرين فصيل، ومن إحدى وستين فصيل، وهذا خلاف الأصول.

.[فرع: الثلاثون من البقر]

إذا ملك ثلاثين من البقر.. جاز إخراج الذكر في فرضها، سواء كانت البقر إناثا أو ذكورا، أو بعضها إناثا وبعضها ذكورا؛ لما روى «عن معاذ: أنه قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل أربعين من البقر مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة» ولم يفرق بين الذكور والإناث.
وإن ملك أربعين من البقر: فإن كانت كلها إناثا، أو بعضها إناثا.. لم يجزئه إلا الأنثى؛ لحديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن كانت كلها ذكورا.. ففيه وجهان:
الأول: قال أبو إسحاق، وأبو الطيب بن سلمة: يجب فيها مسنة بالقسط، وهو أن تقوم هذه الأربعون لو كانت إناثا، ويقوم فرضها، وتقوم هذه الأربعون الذكور، وينظر قدر قيمتها من قيمة الأربعين الإناث، فما نقصت عنها.. نقص بقدر ذلك من قيمة فرضها، واشترى به مسنة.
والدليل على ذلك: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل أربعين بقرة مسنة»، ولم يفرق.
والوجه الثاني - وهو قول أبي علي بن خيران - أنه يجزئ فيه مسن ذكر، وهو المنصوص في "الأم" [2/10]؛ لأنا لو كلفنا رب المال إخراج المسنة عن الذكور.. أضررنا به، والزكاة مبنية على الرفق.
وأما إخراج الذكر في زكاة الإبل: فإن ملك خمسا وعشرين من الإبل، ولم يكن في إبله ابنة مخاض.. فإنه يجوز إخراج ابن لبون ذكر، سواء كانت إبله ذكورا أو إناثا، أو إناثا وذكورا؛ للخبر، وقد مضى ذكر ذلك. وإن كانت في غير الخمس والعشرين.. نظرت:
فإن كانت إبله إناثا، أو ذكورا وإناثا.. لم يجزئه إخراج الذكر؛ لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن كانت إبله كلها ذكورا.. ففيه وجهان:
الأول: قال أبو إسحاق، وأبو الطيب بن سلمة: لا يجزئه إلا الأنثى بالقسط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس وعشرين ابنة مخاض» إلى قوله: «وفي إحدى وستين جذعة». ولم يفرق بين أن تكون الإبل إناثا أو ذكورا، ولأنا لو أخذنا منها الذكر..لأدى إلى أن يؤخذ ابن لبون في خمس وعشرين، ويؤخذ في ست وثلاثين، وفي ذلك تسوية بين القليل والكثير.
فعلى هذا: تؤخذ أنثى بالقسط، بأن تقوم هذه الإبل لو كانت إناثا كلها، ويقوم فرضها، وتقوم هذه الذكور، فما نقصت قيمتها من قيمة الإناث.. نقص من قيمة القرض قدر ذلك، واشترى به أنثى.
والثاني: قال أبو علي بن خيران: يجزئه الذكر، وهو المنصوص؛ لئلا يؤدي إلى الإضرار برب المال.
قال ابن الصباغ: قال ابن خيران:
فعلى هذا: يؤخذ ابن لبون في خمس وعشرين، وتكون قيمته دون قيمة ابن لبون يؤخذ في ست وثلاثين، ويكن بينهما في القيمة مثل ما بينهما في العدد، حتى لا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير.
وحكى في "الفروع" وجها آخر: أنه يجوز أن يكونوا سواء.
وما حكاه ابن الصباغ أولى.
وعلى قول ابن خيران: إذا ملك خمسًا وعشرين ذكرًا.. فهل يجزئ إخراج ابن مخاضٍ؟ فيه وجهان:
قال الشيخُ أبو حامدٍ في "التعليق": يجوزُ، كما يجوزُ إخراجُ ابن لبون في ست وثلاثين، وإخراجُ الحِقِّ في ستة وأربعين.
وقال ابن الصباغ: لا يجوزُ؛ لأنَّ ابن مخاضٍ دون ما افتُتح به الفرضُ.
وأما إخراج ذَكَرَ الغنمِ في زكاتها:
فإن كانت الغنمُ كلها إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا.. لم يُجزئه إخراجُ الذكر. وقال أبو حنيفةَ: (يُجزئهُ).
دليلنا: أنه حيوانٌ تجبُ الزكاةُ في عينه، فكانت الأنوثيةُ معتبرةً في فرضِها، كالإبلِ.
وإنْ كانت الغنمُ كلُّها ذكورًا.. فالمشهورُ: أنه يجزئه إخراجُ الذكر، أما جذعٌ من الضأنِ أو ثنيٌّ من المعزِ؛ لأنَّ ذلك لا يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يُؤخذُ من الكثيرِ.
وحكى في "الإبانة" [ق\115] وجهًا آخر: أنه لا يجزئه إلا الأنثى بالتقسيط، كما قلنا في الإبل والبقر، وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (إلا أن يكون تيسًا، فلا يقبل بحال؛ لأنه ليس في فرض الغنم ذكر).
واختلفَ أصحابنا ـ الذين قالوا: يجزئ إخراج الذكر من الغنم، إذا كانت كلها ذكورًا ـ في تأويل هذا:
فمنهم من قال: أرادَ به: التيس الذي لا ينزو، فلا يؤخذ لنقصانه، فأما الفحل الذي ينزو، ويضربُ الغنم: فذلك من كرائم المال، فلا يُطالب به رب المال، وإن كانت غنمه كلها ذكورًا، فإن تطوع ربُ المال بتسليمه.. قُبل منه.
وقال الشيخ أبو حامد: بل تأويله: إذا كانت الغنمُ إناثًا.. فإنه لا يؤخذ التيس؛ لأنه قال: (لأنه ليس في فرض الغنم ذكر)، أي: ليس في فرض الغنم الإناث ذكر، بل يجب أنثى، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم" [2/8] ولا تؤخذُ الربى، ولا المَاخض ولا تيس الغنم، فأخبر: أن التيس الذي ينزو فلا يطالب به لفضيلته.

.[مسألة: الماشية إذا تمحضت من نوع]

وإن كانت الماشية نوعًا واحدًا، بسن الفرض، فإن كانت متفقة الصفة.. فإن الساعي يختار الواجب منها، ولا يفرق المال.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تفرق الغنم ثلاث فرق، فيختار رب المال فرقة، ويختار الساعي الفريضة من الفرقتين الأخريين)، وبه قال الزهري، وقال عطاء والثوري: (تفرق الغنم فرقتين، فيختار رب المال فِرقة، ويختارُ الساعي الفريضة من الفرقة الأخرى).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. فلو جعلنا الخيارَ لرب المال.. لأعطى الخبيث.
وإن كانت الماشيةُ متفقةً بالسن مختلفةً في الصفةِ.. ففيه وجهانِ:
قال أكثرُ أصحابنا: يختارُ الساعي خيرَها، كما يختارُ أربعَ حِقاقٍ، أو خمسَ بناتِ لبونٍ في المائتين.
وقال أبو إسحاق: يأخذُ وسط ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ». فلو جعلنا الخيارَ إلى الساعي.. لأخذ الكرائم هاهنا.
وإنْ كانت الماشيةُ أنواعًا من جنسٍ، كالضأنِ والمعزِ في الغنم، وكالمَهريةِ والأرحبية والمجيدية في الإبل، فـ: (المهرية): منسوبةُ إلى مَهْرَةَ، وهي قبيلةٌ من العربِ أهل اليمن، وكذلك (المجيديةُ والأرحبيَّةُ): من إبل اليمنِ، وكالجواميسِ والعِرابِ في البقرِ، و (العِرابُ): جُرْدٌ مُلْسٌ حِسانُ الألوانِ، فإنَّ أنواعَ الجنسِ يُضمُّ بعضُها إلى بعضٍ في إكمالِ النصابِ.
وفي كيفية أخذ الفرضِ منها، ثلاثةُ أقوال:
أحدُها: أنه يؤخذُ الفرضُ من النوعِ الغالبِ؛ لأن للغلبةِ تأثيرًا في الأصولِ، كما نقولُ في الماءِ إذا اختلطَ بالمائع الطاهرِ، وكما تُقبلُ شهادةُ من اجتنبَ الكبائرَ، وارتكبَ الصغائِرَ.
فعلى هذا: إذا ملكَ ثلاثينَ من الضأنِ وعشرًا من المعزِ.. أُخِذَ منهُ جذعةٌ من الضأن، وإن استوى النوعان على هذا القول.. ففيه وجهانِ:
قال أكثرُ أصحابنا: يختارُ الساعي أنفعَ النوعين للمساكين.
وقال القاضي أبو الطيِّبِ في " المجرد ": ينبغي أن يُسقطَ هذا القولَ هاهنا.
والقول الثاني: حكاه ابنُ الصبَّاغِ عن "الأم": أنه يأخذُ من أوسطِ الأنواعِ؛ لأنَّهُ أعدلُ، وهذا ليس بمشهورٍ.
والقول الثالث ـ وهو الأصحُّ ـ: أنه يأخذُ من كلِّ نوع بقسطِهِ؛ لأنه مالٌ تجبُ الزكاةُ في عينهِ، فلمْ يُعتبرِ الغالبُ في أخذِ الزكاةِ منهُ، كالثمارِ إذا كانتْ نوعينِ أو ثلاثةً، ولا يدخلُ عليه إذا كانت أنواعًا كثيرةً؛ لأن ذلك يشقُّ.
فعلى هذا: إذا كان معه عشرون من الضأن، وعشرون من المعز.. فإن الشيخ أبا حامدٍ، وابنَ الصباغِ، وأكثرَ أصحابِنا قالوا: يقومُ جذعةً من الضأن، فإن قيلَ: عشرةُ دراهمَ.. قيل له: خُذْ نصفَ قيمتِها، فذلكَ خمسةٌ؛ لأن الضأنَ نصفُ المالِ، ويقالُ: كمْ قيمةُ ثنيَّةٍ من المعز؟ فإن قيل: ثمانيةُ دراهمَ.. قيلَ له: خُذْ نصفَ قيمتها، وهو أربعةٌ، وضُمَّ ذلك إلى خمسةٍ، فذلك تسعةٌ، فيشتري به شاةً، ولم يذكروا تقويم النصابِ من الضأن، ولا من المعز.
وذكر في "المهذب": أنه يقوِّمُ النِّصابَ ويقومُ فرضَهُ، ولا معنى لتقويم النصاب، وقد صوَّرها الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإبل، إذا ملك خمسًا وعشرينَ: عشرًا مَهريةً، وعشرًا أرحبيَّة، وخمسًا مجيديةً.. أن يقال: كم قيمةُ ابنة مخاضٍ مَهريةٍ؟ فإن قيلَ: ثلاثونَ.. قيل: خذْ خُمسي قيمتها، وهو اثنا عشر؛ لكونِ المَهريَّةِ خُمسي الإبل.
ويقالُ: كم قيمةُ ابنةِ مخاضٍ أرحبيِّةٍ؟ فإن قيلَ: عشرون.. قيلَ: خُذْ خمسي قيمتها أيضًا، وهي ثمانيةٌ، ويقال: كم قيمةُ ابنة مخاضٍ مجيدية؟ فإن قيل: عشرةٌ.. قيل: خذ خمس قيمتها، وهو درهمان، وضُم جميع هذا المأخوذ، وهو اثنان وعشرونَ، وماذا يشتري بذلك؟ فيه وجهان:
الأول: قالَ عامة أصحابنا: يشتري به من أي أنواع المالِ شاءَ.
فعلى هذا: يشتري في مسألتنا بتسعةِ دراهم في الغنم: إما جذعةً من الضأن، أو ثنيةً من المعزِ، وفي الإبل: يشتري باثنين وعشرينَ درهمًا ابنةَ مخاضٍ من أي الأنواعِ الثلاثةِ شاءَ.
والثاني: قال ابنُ الصبَّاغ: يشتري من أعلى أنواع المالِ، كما إذا كان بعضُ مالِهِ صحيحًا وبعضه مريضًا.. فإن الزكاة تؤخذ بالقسط، ولا يشتري إلا صحيحة.

.[مسألة: ما يقبل في الزكاة]

قال الشافعي: وروي: «أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثَ معاذًا إلى اليمن مصدقًا، فقال: " إياك وكرائم أموالهم».
وروي: أنَّ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استعمل أبا سفيان بن عبد الله على الطائف ومخاليفها، فقال: اعتدَّ عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم، وخذ الجذعة والثنية.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: إذا خرجت مصدقا.. فلا تأخذ الشافع ولا حزرة الرجل».
قال الشافعي: (فالأكولة: هي السمينة التي تعد للذبح، والربى: هي التي يتبعها ولدها). وتقول العرب: هي في ربابها. كما يقال: المرأة في نفاسها، قال الساجي: التي يتبعها ولدها، وهي حديثة العهد بالولادة، فهي في أوان كثرة لبنها، فلا تؤخذ لفضيلتها.
قال الشيخ أبو حامد: وغلط بعض أصحابنا، فقال لا تؤخذ لنقصانها؛ لأن ولدها قد هزلها. وليس بشيءٍ.
وأما (الماخض): فهي الحاملُ فلا يطالبُ بها؛ لفضيلها، وكذلك ما طرقها الفحلُ، وإن لم يبن حملها؛ لأن البهيمة لا يطرقها الفحل إلا وتحمل في الغالب، وأما (فحل الغنم): فهو الذي ينزو عليها.
وأما (الشافع): فقيل: إنها السمينةُ، وقد روي ما يدلُ على هذا، وهو: «أنَّ رجلين أتيا رجلًا يطلبان منه الصدقة، وقالا: إنَّا رسولا رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فدفعتُ إليهما شاةً ممتلئة شحمًا ولحمًا، فقالا: إنها شافعٌ، وقد نُهينا عن أخذ الشافع» فدل على أنَّ الشافع هي السمينة، وقيل: إنَّ الشافع هي التي في بطنها ولدٌ ويتبعُها ولدٌ، وسميت: شافعًا؛ لأن ولدها شفعها، أو لأنها شفعت ولدها الأول بالآخر.
وأما (حزرة الرجل): فهو المال الذي يحزره الإنسان في نفسه ويقصده بقلبه، قال الشاعر:
الحَزَراتُ حَزراتُ القلبِ.

قال أبو عبيد الهروي: وقد روي: " ولا حرزات المال " ـ بتقديم الراء ـ فإن رضي رب المال بدفع الربى، والحامل.. أجزأه.
وكذلك: لو وجبت عليه ابنة مخاض، فدفع عنها ابنة لبون، أو حقة.. جاز؛ لأنها أعلى منها.
وقال داودُ: (لا تجزئه الحاملُ؛ لأن الحملَ عيبٌ في الحيوان) بدليل: أنه لو باعه جارية حائلًا في الظاهر، فبانت حاملًا.. كان له ردها، ولا تجزئ الحاملُ في الأضحية، وكذلك عنده: لو دفع ابنة لبونٍ عن ابنةِ مخاض.. لم يُجْزِهِ.
دليلُنا: أنَّ الحمل زيادة في الحيوان، بدليل: أنه يجب دفع الحامل في دية العمد تغليظًا على القاتل، وإنما الحمل نقص في الآدميات، لما ينقص من جمالها واستمتاعها، ويخاف عليها منه الموت عند الولادة، وإنما لم تجزئ الحاملُ في الأضحية؛ لأنه ينقص من لحمها.
وأما الدليل على جواز أخذ سن عما دونها: ما «روى أبي بن كعب: قال: بعثني رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصدقًا، فمررت برجل، فجمع لي ماله، فرأيت قد وجب فيها ابنةُ مخاضٍ، فقلت له: قد وجبت عليك ابنة مخاض، فقال: إنه لا در لها، ولا ظهر، ولا نسل، وهذه ناقة فتية سمينة عظيمة، فخذها، فقلت لا آخذها؛ لأني لم أومر بأخذ ذلك، وهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منك قريبٌ، فاعرض عليه ما عرضت علي، فإن أخذها.. أخذتها، وإن ردها.. رددتها، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتلك الناقة، فأخبرناه بذلك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذلك الذي وجب عليك، فإن تطوعت بخيرٍ.. آجرك الله فيه، وقبلناه منك. وأمرنا بقبضها».
ولأنها تجزئ عن ست وثلاثين، فلأن تجزئ عما دونها أولى.